الجمعة، 22 مايو 2020

أبي المدرسة 2- "الفلّة" و "كراتين الرّمان"


كان أبي رحمه الله كثير السفر للخارج ..فمنذ صغري لايكاد يمر شهرين الا ويسافر إلى خارج المملكة .. هذه الرحلات  بالنسبة لنا مصدر سعادة نتطلع دائما لعودته منها ..توقظنا أمي بعد وصوله ونستقبله غالبا بعد منتصف الليل ونحن في حالة للنومِ أقرب منها لليقظة.. ونبدأ الفقرة المفضلة والمنتظرة: "الفلّة"

 
الفلّة عبارة عن توزيع غنائم السفر من ملابس وهدايا .. نجلس جميعا كالحلقة حوله على أرض غرفته .. وتأتي للوسط الشنطة تلو الأخرى ويبدأ في التوزيع: " وههذيييي للاستااااااذ" ويصمت قليلا ليتأكد من "تاق" المقاس .. ثم ينطلق اسم ذلك المحظوظ مرة "سلمان" ومرة "عبدالملك" .. وهكذا الى أن تفرُغ الشنطة تماما وتأتي التي تليها.. كان تقريبا كل مالبسناه في طفولتنا من حصاد هذه الرحلات .. إلا ان تلك مفاجآت  الشنط الاثنان أو الثلاثة الضخمة لم تكن تقتصر علينا .. فأحيانا يكون الفائز "يعرب" أو "ابراهيم" او" رهام" او "ياسمين" من أولاد العم .. حيث يُجمع نصيب كل عائلة على حدة خلال "الفلّة" ..

 

الملابس كان أكثر ما تحتويه فعالية "الفلّة" .. لكن هناك أنواع مختلفة من الرحلات تكون غنائمها "دسمة" .. فرحلات إيطاليا  تكون أنها مفضلة للعنصر النسائي .. فهي التي تعود بالشنط والماركات .. تكون عبارة عن عدّة شنط .. ويتم النقاش أمام الجميع كيف سيتم توزيعها .. على العائلة الممتدة .. ليس حسب الماركة وانما حسب الذوق .. "هذي تنفع ل"خلود" أكثر ولا يا "زين"" .. ثم تكون من نصيب صاحبها ..

 
من الفقرات المفضلة – خصوصا لنا كحضارم- معرفة كمية التفخيض على القطعة ..  "وهذي لقققطة .. يلا حزرو هذي الشنطة بكم؟" .. ويرمي كل واحد منّا رقما ثم ننبهر غالبا من السعر الاصلي وسعر التخفيض الكبير ..

 
مشهد توزيع الملابس والهدايا على جميع أفراد الاسرة الممتدة من الأمور التي لم انتبه لها في الصغر فقد كانت مجرد روتين .. الآن أدرك كمية حب والدي رحمة الله للعطاء للجميع وخصوصا اسرته من اخوان واخوات وابناءهم .. هذا العطاء يربيك على حب الخير للجميع وعدم حب الاستئثار بالخير للنفس .. لكن أمر العطاء علي كطفل لم يكن سهلا دائما .. ففي النفس البشرية حب فطري على التملك والتكّثر من الشيء ..
 

من أمثلة ذلك كراتين رمّان الطائف الذي كان مشهد توزيعها يسبب لي انهيار عصبي ( : كنا سنويا في عودتنا للرياض من العيد في الحجاز نمر على محلات الخضار في جبال الهدا .. ونشتري كراتين كبيرة من الرمان -  أعتقد أنها بين ال4 وال6 كراتين- .. كمية سعادتي كبيرة طوال طريق عودتنا للرياض وانا اشاهد كراتين تلك الفاكهة المفضلة تملأ شنطة ال"لاندكروزر" .. ولكن الطامة الكبرى تكون بعد أيام .. إذ أرى نصف هذه الكراتين يحمّل مرة أخرى في ال"جيب": "هذا لجدتك .. وهذا لعمك سبأ .. وهذا لعمك محمد" .. وأدخل في حالة طويلة من البكاء والندم على تلك الكراتين ..

 
مبدأ المشاركة كان حاضرا في حياتنا منذ الصغر .. ففجأة تجد "اللاندكروزر" إياه اختفى من البيت .. ثم يعود بعد اسبوع: "كان عند جدتك" .. ثم يختفي أخرى ويظهر مجددا .. وفجأة ترى "الكاديلاك" بعد سنوات من الخدمة قد صار في بيت آخر وهكذا .. ومن أكثر ذكريات المشاركة التي ضحكنا عليها كثيرا كانت قبل وفاته رحمة الله بأسابيع .. قررنا قضاء عيد الأضحى في المدينة المنورة وحجزنا جناحاً بثلاث أو أربعة غرف .. وما ان دخلنا الا ووجدنا أن عدد الأسرة على عددنا تماما او ينقصنا بواحد .. دقائق وإذ بأبي مع عمتي على التلفون: "خلود .. الجناح كبيير تعالوا معانا ومليااان سرر" .. طبعا أنتهى الحال بمعظمنا نحن الأولاد بالنوم بين الكنبة والأرض ..الا ان كانت الجمعة والعائلة هي ماصنع فعلا ذلك العيد ..

 
أخيراَ .. ندما دخلت الجامعة وبدأت ال"990" تدخل إلى حسابي الجامعة قال لي:" أبان .. تعطي منها لفلان وفلان كل شهر .. ولو مبلغ بسيط .. لو ما عودت نفسك تعطي الحين محا تعطي بعدين"

خواطر بسيطة من ذكريات مرة على خاطري في هذه الأيام المباركة .. رحمة الله رحمة واسعة وجمعنا بك في مستقر رحمته

ليست هناك تعليقات: