السبت، 22 مايو 2021

زهرة العائلة

عندما نفقد عزيزا فجأة .. نعود بذاكرتنا سريعاً لنتفقّد مابقي منها .. نجد تلك الذاكرة ككائن يتسرب من رؤوسنا قطرة قطرة .. فنحاول ان نسد بأيدينا ونحافظ على مابقي منها  .. ولا اجد كالكلمة او الصورة سداً وحافظاً! 

 

 دادا زهرة .. 

 

عندما أعود الى ذاكرتي الأولى فلا أتذكر الا انها الجدّة ثانية .. هكذا كنت أرى من معاملة جدي وجدتي وأعمامي .. ولكن لم أكن أعرف تحديدا لماذا كان لديّ جدّتين بينما قد اكتفى جميع أصدقائي بواحدة! 

 

 ثم تتوالى الأيام .. وتكبر دادا في داخلي ككيان مهم في العائلة .. لها كلمة عليا .. ومعاملة خاصة .. كانت تقضي عندنا الأسابيع فكانت لها ذكريات عميقة وجميلة وممتدة ... ثم تمر السنين .. وتتكشّف التفاصيل .. قطعة قطعة .. بكل اثارتها ومآسيها وافراحها .. 

 

 دادا زهرة .. هي تلك الطفلة التي لم تبلغ العشْر في أحدى قرى اليمن .. بينما كانت تلعب مع اخوانها اذ جاء غريب يريد ان يريها شيئاً مثيرا .. وماهي إلا لحظات في ذاكرتها حتى أفاقت في مكان آخر وبين أيدي الخاطفين .. وبعد أيام من السفر بين البر والبحر وعلى ظهور الحمير .. وجدت نفسها في بلد آخر لا تعرف بها احداً .. وتقف لتُباع في سوق العبيد!

 

 تتوالى السنين العجاف عليها .. وتتنقل بين سادات عانت الأمرين لدى معظمهم .. إلى ان وجدت نفسها يوما بيعت وأهديت إلى سيدة شابة تدعى خديجة بمناسبة زواجها في مكة .. وانتقلت مع تلك السيدة وزوجها للرياض لتكون لهم عوناً في حياتهم الجديدة .. مع هذه العائلة .. عاشت أيام العائلة من بدايتها .. وعايشت ولادة الأولاد جميعا .. سبأ .. ورياض .. وسلطان .. وخلود .. وآخرهم محمد .. كانت أماً ثانية لهم .. وعاشت أياماً مليئة بالذكريات السعيدة .. 

 

 إلى أن جاءت ليلة في عام 1962 .. حيث طلب منها جدي عبدالله - عليه رحمة الله – طلباً استغربته كثيراً .. أراد منها أن ترتدي أحسن مالديها لانه سيأخذها لـ"مشوار" في الصباح .. لم تستطع أن تعرف ما وراء ذلك الطلب .. ولكنها عاشت ليلة طويلة مليئة بالقلق والتوتر .. وفي الصباح وجدت نفسها في قصر الحكم .. فقد أُصدرقرارُ تحرير العبيد .. تصف دادا ذلك اليوم بالمهيب الذي عجزت فيه عن النطق! لم تستطع ان تجاوب على أي من أسئلة ال"مقيّمين" .. وخرجت من قصر الحكم فجأةً حرّة طليقة بلا مقدمات !!

 

 كان ذلك اليوم كابوساً لها .. بكت كثيراً .. فمن تعرف في هذه الحياة ومن تأمن غير هذه العائلة التي عاشت لديها تلك السنين الجميلة؟ وبالرغم أنه كان بإمكانها أن تعود لليمن لتبحث عن جذورها وعائلتها .. إلا انها قررت خلاف ذلك .. ومن تلك الليلة عاشت دادا زهرة حرّة طليقة وجزءاً لاينفصل من العائلة .. 

 

 دادا زهرة .. هي تلك المرأة الأميّة التي امتلكت موهبة فريدة للحكايا والقصص .. أجلس أحيانا معها لنصف ساعة وتحكي لي شيئا بأسلوب شيق! وعندما تنتهي اكتشف انها لم تحكي لي سوى انها اخذت التاكسي وذهبت للموعد .. قابلت الدكتورة وعادت للبيت!!

 

دادا زهرة .. هي التي لم يكن لها أبٌ أو ولدٌ تعرفه .. لكنها ملكت قلوب جميع من حولها فكانوا كلهم أولادها ..


دادا السخيّة التي فتح الله لها رزقاً من عنده عرَفَ سبيله للمحتاجين .. وما زاد ما تعطي إلا بركة فيما يدها ..

 

دادا زهرة هي تلك الصابرة العابدة التي عاشت جيلا يبدأ يومه قبل الفجر بنصف ساعة لصلاة الليل! 

 

 دادا التي كان أقصى مايسعدها أن تُعد لنا حلى الـ"تطلي" او دبيازتها المحبوكة في الأعياد .. رحلت دادا فجأة اليوم .. حاملة معها ذكريات لاتُنسى .. 

 

 رحلت نقية .. لم تحمل من أثقال الدنيا شيئاً .. وكلي يقين بعطاء الله وانها في نعيمه ..